الحضن الدافئ يذيب جبال الثلج
المشكلة:عندي خمس بنات أكبرهن،حنان التي تبلغ من العمر 15سنة وهي فتاة ذكية تحصيلها العلمي جيد جدًّا، تمتلك عدة مهارات ومواهب منها: الخط، والرسم، والكتابة الأدبية بما يناسب سنها، ومع ذلك فهي خجولة ومترددة في مواجهة أي جديد سواء كان هذا الجديد شخصًا تتعرف عليه أو حدثا، ويظهر عليها ذلك عند مقابلتها للناس للمرة الأولى؛ حيث تحتاج إلى وقت طويل لتنطلق في المشاركة بالحديث، تنظر دائمًا لما يتميز به الآخرون وتفتقده؛ فتشعر بالإحباط.
الحل : الاستاذة مي حجازيالأم السائلة، لا نملك حيال ما وصفت به ابنتك إلا أن نقول كما علمنا رسولنا الكريم: "باسم الله، ما شاء الله لا قوة إلا بالله"، وحفظ الله ما أنعم به عليها، ونفعها بما تتعلم، ونفع بها.
ونأتي معك إلى الجزء الثاني من الاستشارة، تقولين: إنها مع هذه المواهب التي ذكرت خجولة ومترددة في مواجهة أي جديد، ولهذا تفسيره، فهي الطفلة الأولى ـ كما حددت في تربيتها ـ والعادة عندما تتزوج الفتاة وترزق بطفلها الأول لا يكون عندها خبرة تربوية كاملة بكيفية تربية الأطفال وإشباع احتياجاتهم المختلفة خاصة النفسية، في الوقت الذي لا يزال انشغالها بالزوج ورعاية البيت، يأخذ حيزًا كبيرًا من أولويات اهتماماتها، وبالتالي يقع الطفل الأول فريسة للإشباع العاطفي غير الكامل، وكأننا أعطينا للطفل وجبة لبن لذيذة لكنها غير مشبعة.
والخجل يمثل مرحلة من مراحل نمو الطفل يبدأ في التخلص منه بعد السنة الثانية إذا حصل له الامتلاء النفسي ـ باهتمام الأم به عند الولادة وعدم انشغالها عنه؛ ولهذا الاهتمام أهميته، وهو المسئول عن بناء الثقة داخل الطفل، تلك الثقة التي تمثل بالنسبة للطفل جواز المرور والانطلاق إلى العالم الخارجي بكل الحرية، إنه جواز لا تمنحه سوى جهة عليا وحيدة، بشرط واحد، ويكتب فيه عبارة واحدة؛ تلك الجهة هي الأم، والشرط هو حصول الطفل على الإشباع العاطفي الكامل، وأما العبارة فهي ما يُسطر في البنية النفسية للطفل (أنا موجود إذًا أنا محبوب) وهي تساوي الثقة.
ونعطي مثالاً للانشغال حتى نفهم المقصود به وكذلك أثره، وسنعطي لذلك مثالاً ظاهرًا فما من أم لم تقم بعملية تدريب طفلها على تنظيم عملية الإخراج، ولكل منهن أسلوبها في ذلك ـ ولا مجال هنا لمعالجة هذه الأساليب ـ لكن سنأخذ أحد هذه الأساليب، فأحيانًا تقوم الأم بعملية التدريب دون تفرغ؛ لانشغالها الشديد بأشياء أخرى، فيتسم تدريبها لطفلها بنفاد الصبر الذي يصل أحيانًا للقسوة.
وهذا الانشغال يترجمه إحساس الطفل بأنه مرفوض من أمه لأنه قذر، ويصعد الأمر عند بعض الأطفال إلى صدمة في اللاشعور يظهر في صورة الانطواء وعدم التلقائية، وبصفة خاصة، وإذا أضفنا إلى هذا التفسير رؤية ابنتك لاهتمامك بأخواتها الأربع الأصغر منها، ومما سبق يمكن فهم إحساسها الدائم بتميز الآخرين ـ فقد كانت تحس بداخلها أن هناك من هو مستحوذ على اهتمام الأم غيرها، وهم دومًا الإخوة الأصغر سنًا.
والسؤال الآن: هل يمكن تعويض ما فاتها؟ هل يمكن ملء هذه الفجوة العاطفية؟
نعم، على أن تلتزمي أيتها الأم بعلاج أصل المشكلة وتهملي الظواهر (الخجل ـ التردد…) بعدم التعليق على هذه الظواهر أو الاهتمام بها، ثم يأتي دورك في تعويضها في المراهقة عما فاتها من اهتمام في مرحلة الطفولة، فما عليك سوى إعطائها مزيدًا من الاهتمام الذي يشعرها بأنها تملك مشاعرك، احتضنيها كأنها طفلة صغيرة، واستثمري مراهقتها في توثيق العلاقة بينكما وجعلها مجالاً للحوار، تكلمي معها عن أحاسيسها ومشاعرها، اعملي على نقل خبراتك لها بلغة الصديق والأخت وحنان واستيعاب الأم، افعلي كل ما من شأنه أن يزيد ثقتها بنفسها بأن تنتبهي لصفاتها الإيجابية وغضي الطرف عن صفاتها السلبية، فلا تقولي لها: أنت ذكية ومتفوقة لكن لو تتخلصين من خجلك سيكون أفضل.. وهكذا..
وقولي لها: أنا وأنت معًا هذا يكفي لا داعي للاهتمام بمن حولنا، تصرفي على أساس مما تؤمنين به من مبادئ لا بناء على آراء الآخرين فيما تفعلينه. واحكي لها حكاية جحا وابنه حينما حاولا إرضاء الناس، فركبا الحمار معًا؛ فسخر الناس؛ وقالوا: إن الحمار لا يتحملهما. وركب جحا ومشى ابنه؛ فسخر الناس وقالوا: يركب الكبير ويمشي الصغير الضعيف. وركب الابن على الحمار ومشى جحا بجواره؛ فاستهزأ الناس، وقالوا: كيف يركب الصغير ويمشي الكبير. وبعد ذلك حملا الحمار سويًا؛ فأدخلهما الناس مصحة للأمراض العقلية.
استثمري مواهبها في تشجيعها على الكتابة؛ لأن تعبيرها عما بداخلها بالكتابة الأدبية سيعوِّض جزءاً مما فقدته في البناء النفسي وأدى إلى خجلها وترددها.
كل ما أريد أن أقوله: إن ما ترتب على الإشباع العاطفي غير الكامل في صغرها ظهر الآن في ترددها وخجلها، مثل جبل الثلج الذي ترسب لديها في اللاشعور، هذا الجبل لن يذيبه التوجيه اللفظي والكلام، بل سيصطدم به ويزيده صلابة، ولن يذيبه سوى دفء حضنك واهتمامك وثقتك فيها؛ فاجعلي مهمتك تذويب الثلوج بعيونك الحانية وحضنك الدافئ.
منقول