دراسة.. طفولة بلا جراثيم تعني شبيبة بلا مناعة ولت الأيام التي كان وقت اللعب فيها عند الأطفال غالبا ما يعني الاتساخ أثناء عمل أقراص من الطين، وربما التراشق بها، والقفز في برك الوحل أو الجداول قليلة المياه، وتسلق الأشجار، والعبث مع كل ما تصل إليه أيديهم من حيوانات وخلافه.. ولم يكن هؤلاء الأطفال يغسلون أياديهم ووجوههم إلا لماما، وبعضهم كان يفعل به هذا عنوة قبل تناول الطعام فقط، وكان الاغتسال فقط بالماء والصابون ولا أكثر.
أما في أيامنا هذه فأكثر الآباء يفاخرون بأنهم يحافظون على أبنائهم شديدي النظافة واللمعان، وبلا جراثيم؛ فبسبب وبلا سبب يتم نضح أيدي الأطفال من حين لآخر بالمطهرات العضوية أو غسلها بالصابون المضاد للبكتيريا.
جامعة "نورث وسترن" الأمريكية أجرت بحثا أفادت نتائجه أن التعرض للجراثيم والميكروبات اليومية -لا التي تنتشر بالأوبئة أو مخالطة المرضى- هو السبيل الوحيد لإكسابهم مناعة ضدها عند بلوغهم.
وتعد الدراسة، التي نشرت في إصدار ديسمبر من صحيفة وقائع الجمعية الملكية بـ: العلوم الحيوية، هي الأولى التي تبحث في إذا ما كان التعرض للميكروبات في وقت مبكر من العمر يؤثر على عمليات الالتهابات المتصلة بالأمراض في مرحلة البلوغ.. المدهش أن الجامعة قررت بعد بحثها أن التعرض للميكروبات المعدية في الطفولة قد يكسبهم عندما يبلغون مرحلة النضج والبلوغ، ويصيرون شبابا وشابات، مناعة من المرض بعلل خطيرة، تشمل أمراض القلب والأوعية الدموية.
الحرص الزائد عن حده ينقلب لضده
وفي بيان لوسائل الإعلام قال المؤلف الرئيسي للبحث "توماس ماكديد": "خلافا للافتراضات المنسوبة لدراسات سابقة، فإن بحثنا يرى أن النظافة الفائقة، والبيئات الصحية المتطرفة في طهارتها وخلوها من الجراثيم أثناء مراحل العمر الأولى، قد تسهم في مستويات عليا من الالتهابات عند البلوغ، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى زيادة فرصة الإصابة بمجموعة كبيرة وواسعة من الأمراض".
وأضاف ماكديد، الأستاذ المشارك في الأنثروبولجي بجامعة نورث وسترن واينبرج، أن الناس يعيشون الآن في بيئات فائقة النظافة، ولكن الآن.. ربما حان الوقت لوضع حد لاستخدام الصابون المضاد للبكتيريا، وأوضح ماكديد مفسرا هذا: "لأن البحث الجديد يشير إلى حاجة الأنظمة المضادة للالتهابات إلى مستوى عال معقول من التعرض للجراثيم والميكروبات اليومية الاعتيادية لكي تعمل بشكل صحيح في الجسم، وتقوم بتطوير مناعات ضده".
وختم ماكديد توضيحه: "بعبارة أخرى: الشبكات المضادة للالتهابات قد تحتاج في بواكير العمر إلى التعرض للميكروبات التي كانت جزءا من البيئة البشرية خلال تاريخها بتطوراته لكي تعمل بشكل مثالي أثناء الرشد والبلوغ".
وكان الباحثون في جامعة نورث وسترن درسوا بشكل خاص مدى تأثير البيئات في بواكير العمر على إنتاج بروتين الاستجابة التفاعلية (CRP)، وهو بروتين يزداد تركيزه في الدم بسبب الالتهابات في سن البلوغ والرشد، وكانت الدراسة ركزت في بحثها حول بروتين (CRP) المهم في أنظمة المناعة المضادة ضد العدوى، كأحد المؤشرات التي تنبئ بإمكانية الإصابة بأمراض القلب، بينما أجرى العلماء في وقت سابق معظم دراساتهم في مجتمعات غنية، وفيها الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تكون هناك مستويات الأمراض المعدية أقل نسبيا.
المهم أن ماكديد ورفاقه كان لديهم اهتمام لإجراء مقارنة عن إنتاج بروتين (CRP) في أماكن فقيرة نسبيا كالفلبين؛ حيث يعيش السكان مع مستويات عالية من الأمراض المعدية في مراحل الطفولة في مقابل البلدان الغربية الغنية، ففوجئوا بأن أهالي الفلبين (وسائر سكان البلدان الفقيرة) يتمتعون بنسب ومعدلات منخفضة فيما يتعلق بانتشار السمنة وأمراض القلب والأوعية الدموية المرتبطة ببروتين (CRP).
بحث طويل موثق
كان الفريق البحثي عمل على بيانات من دراسة مطولة أجراها على أهالي الفلبين بدأت منذ ثمانينيات القرن العشرين الماضي شملت 3327 أما فلبينية في الثلث الأخير من حملهن، وتم إجراء مقابلات معهن لاستطلاع ما يتعلق بأمور الرضاعة الطبيعية، والظروف المعيشية بشكل عام وتقييم الحالة الاقتصادية والاجتماعية لهن على وجه الخصوص، ومستويات النظافة والعناية الصحية (وفي ذلك اقتناؤهم أي حيوانات)، وعدد أفراد المنزل.
زار الباحثون أيضا الأمهات مع أولادهن بعد ولادتهن مباشرة، ثم بعد ذلك تمت الزيارة كل شهرين خلال العامين الأولين من عمر الأطفال، وبعد ذلك كانت زيارات الباحثين تتم بشكل دوري كل أربع أو خمس سنوات حتى بلغ عمر البحث نحو 22 عاما، وخلال هذه الفترة الزمنية كلها ظل تدوين وثائق عن حالة الأطفال وحالتهم الصحية يتم بشكل منتظم، وكانت السجلات تضم أيضا بيانات عن الطول والوزن وأي أمراض معدية التقطها أي منهم.
ولما تم عمل اختبارات معملية على دماء هؤلاء الأطفال الفلبينيين عندما بلغوا سن العشرينيات أظهرت النتائج أن مستويات تركيز بروتين (CRP) كانت عن معدل 0.2 ميللجرام لكل لتر من الدم، والمفاجأة أن هذا المستوى كان يقل عن مثيله لدى الشباب والشابات الأمريكان في نفس السن بنحو 5 إلى 7 مرات!.
هنا يوضح ماكديد خلاصة البحث بأنه "في أمريكا حيث تسود فكرة وقاية الأطفال من الميكروبات والجراثيم المسببة للأمراض مهما كلفنا الأمر.. بأننا نحرم نظمهم المناعية وشبكاتها العاملة في أجسامهم من معلومات غاية في الأهمية تمثل معطيات حيوية لهذه النظم لكي تكون دليلا ومرشدا لها في عملها أثناء الطفولة؛ لكي تكون شبكات مناعية دفاعية لهم تقيهم أثناء بلوغهم سن الرشد".
منقول - اسلام اون لاين