عندما يمنعك ابنك من العمل! "بابا.. بابا.. مَتْخدمْشْ.. مَتْخدمْشْ" (لا تعمل).. هكذا صاح ابني ذو السنتين ونيف، في ليلة من الليالي، كان يدعم صوته الخافت الحزين، لمسات يديه الماسكة بقوة برجلي وأنا أحاول أن أجلس على مكتبي لأتابع أعمالي التي لا تنتهي.
هذه الجملة لم تكن الأولى ولا الأخيرة.. بل ظل يرددها ويرددها ليس أحيانا ولكن دائما، تساءلت في نفسي: ما الذي يمكن أن يحمل فتى في سنه على أن يصرخ في وجه أبيه ويطلب منه ألا يعمل؟!
هو بالفعل يدرك أني لم أكن أقوم بشيء إضافي أو فسحة إلكترونية أمام هذا الجهاز، الذي بات يؤرق حتى زهرة العمر.. وأحيانا تعتبره شريكا لها فيَّ.
فقلت أجرب أن أصبح طفلا، أو على الأقل أن أستصغر عقلي وأرى ما الحكاية؟
ماذا بعد.. يا أمين؟
تركت الجهاز جانبا والتفت إليه بحنان زائد، لأنه صرخ علي وهو يدرك ما يقول، ويعني ما يفعل، فتساءلت: "أنا تركت العمل الآن، ماذا بعد؟".
لا تتصورون الابتسامة التي غطت وجه الصغير وهو يكاد يطير ويقول بصوت متقطع، لأنه يطير فرحا وأنتم تعلمون كيف يتحدث الصبيان حين يكون الفرح ساكنا جنباتهم: "أََََجي الْعَبْ مْعَايَا".
هو ابتسم.. وأنا انصدمت
أخفيت صدمتي الكبيرة بابتسامة عريضة، كالتي نراها في العروض البروتوكولية، لم أكن أعي أن الصحافة مهنة المتاعب، قد أصبحت في متخيل ابني شوكة لا بد أن تنزاح.
وعلمت أن المشكلة ليست في المهنة بحد ذاتها، ولكن في أن تصبح كل شغلي وهمي، بل أن تصبح شغلي الوحيد أيضا داخل البيت الذي هو مملكة هذا الطفل البريء تنافسه لحظات يمكن فيها أن يلعب ويلعب ثم ينام في كنفي.. كما كان الأمر من قبل.
المعادلة متكافئة.. إن كنت طفلا
قضيت معه ما تيسر من الوقت، هو أكيد لم يكن وقتي بل من وقت عملي، لعبنا فيها كل الألعاب التي تذكرتها لما كنت في طفولتي، لعبنا القط والفأر، وقمنا بتركيب سكة القطار معا ووضعنا القطار على السكة وراح يلف ويلف ومع كل لفة نغني غنوة.. أجعله يردد لوحده ولكن يأبى إلا أن يطلب مني المساندة.
مللنا من القطار الذي لم يتوقف، فرحنا نتبادل العض واللكم الخفيف -طبعا أنا كنت أحن منه، لأنه كان ينتقم مني- مرة يقلبني ومرة أقلبه، مرة يغلبني ومرة أغلبه.. رأتني زوجتي فاستغربت، وقالت: "إما أنك مجنون أو ليس لك شغل؟!".. ولم ألمها طبعا فيما قالت.
بعد هذه اللحظات التي أعترف أنها لحظات لن أنساها ولن أبخل بها ما استطعت، تساءلت مع نفسي: هل يمكن أن يكون الطفل بهذا الغباء عندما يطلب منك ترك العمل واللعب معه؟!.
انزل من برجك وسترى
ما رأيكم في هذا السؤال؟ من الغبي؟! هل الطفل أم أبوه؟ أم لا أحد منهما؟
بيني وبينكم أنا كنت غبيا عندما طرحت السؤال، لأنه فعلا ابني لم يكن بحال من الأحوال غبيا لتلك الدرجة.. فقط أنا كنت في برج عال، وأتحدث بلغة ومنطق غير متكافئين، أتحدث بعقل رجل عمره قارب الثلاثين مع طفل لم يتجاوز السنوات الثلاث!!
هذا البرج جعلني أنسى أن العمل واللعب لا يمكن أن يكونا إلا معادلة متكافئة في منطق الصبيان، بل وأحيانا نكون نحن ظالمين لهم عندما نمتنع ونصر على عدم تكافؤ المعادلة.
بالفعل كنت غبيا جدا
بعد أن انتهينا من اللعب.. قال لي وعيناه يداهمهما النعاس بصوت متقطع: "سِيرْ تخْدم دَابَا" (يمكنك أن تعمل الآن).. كما كان انبهاري بصرخة منعه لي وأنا أحاول أن أجلس على كرس مكتبي، كان أكثر وهو يطلب مني أن أشتغل الآن -بعد أن أخذ حقه- وهو في لحظة يكاد يخطفه فيها النوم.. لم أتساءل ولن أتساءل ولكني اكتشفت أني كنت غبيا بالفعل.
هل يمكن أن يتكرر ما حدث؟
كان السؤال الذي أحسسته في عقل ابني وهو يكاد ينام: "هل سألعب معه غدا أيضا؟" إنه إحساس الأب ولا يمكن أن يكون إلا صادقا، وخاصة عندما تتوافق خاطرتك مع خاطرة زوجتك وهي تقول لك في تلك اللحظة نفسها: "هل ستلعب معه غدا أيضا؟".. أصبحت أفهم أن المسألة لم تعد لعب أطفال فقط، وإنما هو أيضا طلب على طبق من الرقة والحكمة أن البيت محتاج لرجل كبير ورجل في ثوب طفل، وزوج يسكن مع زوجة تحت سقف واحد.. .
منقول - اسلام اون لاين