أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ( ما أروع اعجاز القرآن)
.. : الإبل " ..
• قال تعالى : أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الغاشية/17 .
الإبل نموذج فريد ، وفي خلقها آيات من إحكام التدبير ، ولطف المدبر ، ما شغل
العلماء على مر العصور .
ولذا اختصها تعالى بالذكر دون غيرها ، فالإبل هي سفينة الصحراء
حتى إن السيارات لم تستطع منافستها
في الأراضي الصحراوية الوعرة ، التي لم تزل ميدانه دون منازع .
• فمن الإبل ما هو متين البنيان ، قادر على حمل الأثقال الفادحة ، وهذا في وسعه أن يقطع ستين كيلومتراً في اليوم .
• ومنها أيضاً الرواحل المضمرة الأجسام ، الخفيفة الحركة ، وهي أصلح للركوب ، وسرعة الحركة
، فقد تقطع في اليوم الواحد مسيرة مائة وخمسين كيلومتراً .
• وللعربي منافع في إبله ، غير الانتقال والحمل ، فهو ينال من ألبانها ولحومها ، وينسج كساءه من
أوبارها ، ويبني خباءه من جلودها . فيقاس ثراء العربي بما عنده من الإبل ، دون غيرها . وكفاها شرفاً
أن كانت أفضل ما يُهْدَى إلى الحرم : وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله الحج/36 .
• أما مظهرها الخارجي : فقد زودها الله تبارك وتعالى بخصائص :
أما العينان : فمحاطتان بطبقتين من الأهداب الطويلة ، تقيانها القذى والرمال .
الأذنان : صغيرتان ، قليلتا البروز ، يكتنفها الشعر من كل جانب ليقيها الرمال ، ولها القدرة على
الانثناء للخلف ، والالتصاق بالرأس ، إذا ما هبت العواصف الرملية .
المنخران : يتخذان شكل شقين ضيقين ، محاطين بالشعر ، وحافاتهما لحمية
فيستطيع الجمل أن يغلقهما إذا أراد .
ذيله : يحمل على جانبيه شعراً ، يحمى الأجزاء الخلفية الرقيقة من حبات
الرمل التي تقذفها الرياح .
قوائم الجمل : طويلة ، ترفع الجسم عن كثير مما يثور تحته من غبار
وتساعده على اتساع الخطوة ، وخفة الحركة .
القدم : كأنه خف واحد ، يغلفه جلد قوي غليظ ، يضم وسادة عريضة ، لينة
تتسع عندما يدوس الجمل فوق الأرض ، ومن ثم يستطيع السير
فوق أكثر الرمال نعومة .
وللجمل وسائد من جلد قوي سميك ، على مفاصل أرجله ، يعتمد عليها الجمل
حين يبرك للراحة
وهي تُولد معه ، حتى تقيه حرارة الأرض عند البروك ، وتتحمل ثقل الجمل أثناء بروكه .
طول عنقه : حتى يستطيع تناول طعامه من نبات الأرض ، كما يستطيع قضم أوراق الأشجار المرتفعة
ويجعل رأسه مرتفعة فوق العواصف الرملية ، حتى يرى الطريق أمامه .
• كل هذا جميل ، ولكن الأهم هو : صبر الإبل على الجوع والظمأ .
- من الملاحظ أن شفة الجمل العليا مشقوقة ، حتى يستطيع التقاط نبات
الصحراء الشائك الخشن
ثم تتولاه أسنانه القوية ببعض الطحن ، قبل أن يزدرده ، ليحتفظ به فترة في كرشه ، ثم يجتَرَّهُ
ليعيد مضغه في أناة ، عندما تكون الظروف مواتية .
- ويستطيع الجمل أن يتحمل العطش شهرين متتابعين ، غير مكترث لذلك
إذا كان غذاؤه نباتاً طريّاً غضّاً ، أما إذا كان غذاؤه يابساً جافّاً ، فإنها تتحمل قسوة الظمأ
في هجير الصيف ، أسبوعين كاملين أو أكثر ، وفي هذا الزمن ، تفقد ربع وزن أجسامها
ولا تكترث بذلك ، فلا تخور قواها ، بل تمضي كأن لم يكن شيئاً ، فإذا وجدت الماء بعد ذلك
عَبَّت مِنهُ عَبَّاً ، فقد تَعُبُّ مِنْهُ مائة لتر ، في عشرة دقائق ، دون أدنى ضرر .
- أما الإنسان :
فلو فقد 5 % من وزنه من العطش ، فقد صوابه ، وحكمه على الأمور .
فإذا فقد 10 % فقد إحساسه بالألم ، وهذى وصُمَّت أذناه .
أما إذا فقد 12 % من وزنه بسبب العطش ، فقد قدرته على البلع ،
فتستحيل عليه النجاة - حتى إذا وجد الماء - إلا بمساعدة منقذيه ، ويشرب ببطء شديد
فانظر إلى الجمل ، يَعُبُّ مائة لتر ، ولا يكترث .
- والجمل يستطيع أن يطفئ ظمأه بأي نوع من الماء ، حتى لو ماء
مستنقع شديد الملوحة ، أو المرارة ، أو ماء البحر ، لأن كُلْيَة الجمل
مجهزة تجهيزاً خاصّاً ، قادراً على التخلص من هذه الأملاح المركزة .
- أما سنام الجمل ، فهو مخزن للغذاء ، فالجمل يخزن فيه الدهن
إلى حين يحتاجه ، فإذا ما طال السفر ، وزاد العناء ، وشح الغذاء
لجأ الجمل إلى دهنه المختزن ، فأخذ يحرقه شيئاً فشيئاً ، وسنامه يذوى يوماً فيوماً
حتى يميل على جنبه ، ثم يصبح كيساً خاوياً متهدلاً من الجلد ، إذا طال به الجوع .
واحتراق هذا الدهن من السنام ، ينتج عنه ماء يسمى : ماء الأيض ، وهو المتكون
نتيجة التفاعلات الكيميائية الحيوية داخل الجسم ، وهذا مصدر من مصادر ماء الجمل ، يمده الله به .
- والجمل يحتفظ بالماء موزعاً في كافة أنسجة جسمه ، وفي كل عضو فيه
وهو يقتصد جدّاً في استعمال الماء .
- فهو أولاً لا يتنفس من فمه ، ولا يلهث أبداً ، مهما اشتد الحر ، فيتجنب بخر الماء .
- جلد الجمل لا يجود إلا بأدنى مقدار من العرق ، وعند الضرورة القصوى.
- إخراج مادة اليوريا ، الناتجة عن البروتين في الجسم ، تحتاج في الكُلى
إلى كميات من الماء لإخراجها ، وهذا في الإنسان وباقي الحيوانات .
أما في الجمل ؛ فالذي يفرز البولينا بطانة المعدة ، فتفرزها من الدم إلى داخل المعدة
وتخرج البولينا في البراز ، بدلاً من البول ، دون حاجة إلى كميات كبيرة من الماء
لتذيبها في الكُلى ، فهذا توفير عظيم من الماء . كما أن الكُلى تتحرر من عبء كبير
وهو إخراج البولينا ، وبذلك تستطيع إخراج الأملاح الزائدة ، التي قد يضطر الجمل إلى تناولها
وبأي كمية ، مهما كانت شديدة الملوحة .
- يمتاز الجمل بحجمه الضخم ، والقاعدة المعروفة هي أنه كلما زاد حجم الجسم
قلت نسبة سطحه الخارجي إلى حجمه . ولذا ، فما يمتصه جسم الجمل من حرارة
الجو القائظ من حوله ، أقل نسبيّاً مما يمتصه إنسان أو جسم فأر ، وهذا يجعل كمية العرق
التي يفرزها الجمل قليلة جدّاً ، فهي تتناسب عكسيّاً مع حجم الحيوان .
- أما وبر الجمل الكثيف ، فيسقط معظمه بعد انتهاء الشتاء ، ولا يبقى منه إلا طبقة رقيقة
تعزل الجمل عزلاً جيداً عن الجو المتقد حوله ، ولكنها لا تحول دون تبخر القدر الضروري
الضئيل جدّاً من العرق ، إذا استدعى الأمر ، وهذا السر تعلمه البدو والأعراب من الجمل
فهم يلتحفون بعباءات من الصوف ، وهم في هجير الظهيرة ، ويبدو أنهم متمتعين بقدر عظيم من
الراحة ، بينما رفقاؤهم الأوربيون يعجبون لذلك ، وهم يكادون يخرون صرعى الحر ، بأقمصتهم
الرقيقة المفتوحة ، وسراويلهم القصيرة .
- أما الطبقة الدهنية تحت جلد الجمل ، فهي رقيقة جدّاً ، لأن معظم الدهون مختزنة في سنامه
فإذا ارتفعت درجة حرارة جسم الجمل ، فإن الأوعية الدموية
القريبة من السطح ، تسمح بإشعاع
حرارة الدم ، أو نقلها إلى الجو المحيط بالحيوان
دون حاجة إلى إفراز عرق .
• أما العجب العجاب ، فهو أن الجمال من ذوات الدم الحار ، وأنها - كالإنسان - تحتفظ بدرجة
حرارة دمها ثابتة ، إلا أن جهاز ضبط الحرارة عند الجمال مرن
إلى درجة كبيرة ، فهو يسمحبمدى واسع في تفاوت درجات الحرارة
في الجسم ما بين 34 إلى نحو 41 درجة ، أي حوالي 7 درجات
كاملة ، ويصبح هذا التفاوت كله طبيعيّاً في جسم الجمل .
• أما الإنسان ، فلو زادت درجة حرارة جسمه درجة واحدة ، اعتُبِرت حُمَّى ، وعملت أجهزة الجسم كله
على أن تخفض هذه الدرجة ، أما الجمل فلا يكترث بسبع درجات ، وهذا في النهار ، أما في الليل
فإن الجمل يتخلص من الحرارة التي اختزنها ، بإشعاعها إلى الهواء البارد حوله ، دون أن يفقد قطرة ماء
واحدة ، وهذا يوفر للبعير خمسة لترات كاملة من الماء .
• ومن المعلوم أن الجسم يكتسب الحرارة ، من الوسط المحيط به ، بقدر الفرق بين درجة حرارته
ودرجة حرارة ذلك الوسط . أما الجمل ، فلو زادت درجة حرارة الجو المحيط به إلى 41 درجة ، وهو
شدة القيظ ، فإن درجة حرارة جسم الجمل ترتفع حتى 41 درجة ، دون أي اكتراث منه ، وحتى لا يكتسب حرارة من الخارج .
• الغريب في الأمر ، أن الجمل إذا استمر بدون ماء ، في ظروف بالغة القسوة
من الحرارة ، فإنه يستطيع أن يفقد ماء بما يوازي وزن ربع جسمه ، دون تبرم أو شكوى ،
ولكننا
سوف نكتشف أن معظم هذا الماء الذي فقده ، استمده من أنسجة جسمه ، لا من
دمه ، وبذلك يستمر الدم سائلاً جارياً ، موزعاً الحرارة
ومبدداً لها من سطح الجسم ، وهذا أمر لا يدانيه فيه كائن ، حيث إذا تعرض الإنسان للظمأ الشديد
فنسبة الماء في دمه تقل ، فيغلظ دمه ، ويقل جريانه ، ويبطؤ دورانه ، إلى أن يهلك قريباً .
• فسبحان من لفت أنظار خلقه إلى الإبل ، فقال : أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ
خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ
كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ الغاشية/(17 - 20) .
فانظر كيف وضع الله تعالى الإعجاز في خلق الجمل ، جنباً إلى جنب
مع الإعجاز في خلق السماوات
والأرض والجبال ، تنبيهاً لنا على التفكر في ذلك .