الغزالي.. نصير المرأةالشيخ الغزالي رحمه الله يتواكب الاحتفال باليوم العالمي للمرأة (8 مارس) مع ذكرى رحيل الشيخ محمد الغزالي (9 مارس 1996)، ولعل المفارقة هي دلالات هذا التقارب الزمني، ففي الوقت الذي يشهد اليوم العالمي للمرأة مطالبات من الفاعلين في مجال العمل النسوي بحقوق المرأة، كان الشيخ الغزالي وما زال فكره من أجرأ من تناول أحوال المرأة بالتنظير والتحليل، وتميزت رؤيته التجديدية بالموضوعية والمبادرة في الطرح والتناول، فقد مثلت المرأة في فكر الغزالي قاسمًا مشتركًا في مؤلفاته الغزيرة ومعاركة الفكرية التي خاضها لتصحيح الأوضاع الفاسدة.
المرأة عند الغزالي
وفي ذكرى رحيله أصدرت الكاتبة والباحثة العراقية "سهيلة الحسيني" كتابًا بعنوان "المرأة في منهج الإمام الشيخ الغزالي" تحكي في مقدمته عن علاقتها الأسرية بالشيخ الغزالي، وكيف أنها تربت في مدرسته الفكرية، وأقامت معه ومع أسرته الصلات الروحية التي استمرت السنوات الطوال حتى كانت أثيرة لديه يخصها بالرعاية والاهتمام.
وفي هذا الكتاب تناولت الباحثة بعض القضايا الرئيسية التي غلب على معظمها سمة التعامل اليومي التي أثارت جدلاً بين العلماء والفقهاء وحكمتها التقاليد، وقد أوضحت الكاتبة أن منهجه في دفاعاته يستند إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة إلى جانب اجتهاداته الخاصة بحكم الإيقاع السريع، ويخاطب المرأة المسلمة حيث وجدت فوق هذه المعمورة لا من موقع إقليمي وعربي، موضحًا أن مصاب الإسلام في المتحدثين عنه لا في الأحاديث نفسها، ففي قضايا المرأة أحاديث موضوعة صححها الغرض وأحاديث صحيحة حرفت عن موضوعها، وكان محاربًا على جبهتين الإفراط والتفريط، ويتضح ذلك من مقولته "إننا لا نريد أن ننقل المرأة من عصر الحريم إلى عصر الحرام"، وتناول قضايا المرأة على اختلاف جوانبها؛ إذ كان يرى أن تقهقر الأمة الإسلامية في العصور الأخيرة يعود إلى العجز الشائن في فهم موقف الإسلام الصحيح عن المرأة.
معركة النقاب
مثل حجاب المرأة أحد معارك شيخنا الجليل التي خاضها كأحد الفرسان النبلاء الذين لا يهابون الكثرة ما دامت شاذة عن الحق فقد أراد أن يقدم صورة صادقة عن الإسلام أمام أهله والمتربصين به، فأوصى أن تبتكر أزياء للنساء تجمع بين الفضيلة والجمال وتمنع التبرج والسفور لنجعل المرأة سفيرة تنقل الإسلام في صورة الاحتشام المعقول إلى الغربيات لا مظهرا منفرا تستخدمه غير المسلمات سلاحا لصد بنات جنسها عن الإسلام.
وخاض شيخنا معركة النقاب؛ لأنها معركة شديدة الاحتدام وصلت مغالاة البعض في آرائهم الخاصة بالتحريم إلى ردهم لأقوال العلماء الثقات فتتبع شيخنا هذه الفتاوى، وأثبت أن الإسلام أباح كشف الوجه مستدلاً بوجوب كشفه في الحج والصلوات كلها، ومستدلاً أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الوجوه ظاهرة في المواسم والمساجد والأسواق، فما روي عنه قط أنه أمر بتغطيتها، وحديث المرأة التي أفهمها النبي صلى الله عليه وسلم أن أكثر ما يدخل النساء النار كفران العشير قال الراوي في وصفها إنها سفحاء الخدين أي حمراء الوجه مشوبة بسمرة، فهل عرف ذلك وهي تخفي عينًا وتبدي أخرى؟ أم أكانت سافرة دون اعتراض، وكذلك الأمر بغض البصر، فالغض يكون عند مطالعة الوجوه بداهة.
صوت المرأة ليس عورة
يرى شيخنا أن مكانة المرأة أجل من أن يحجر على صوتها، الصوت الذي طالما ارتفع بالحق فسمعه الصحابة والتابعون، كما أن كتب التاريخ تحفل مزهوة بواعظات وراويات وفقيهات أخذ عنهن الصفوة من العلماء والأئمة فقد أخذ نصف الدين عن الحميراء الصديقة بنت الصديق وبتوصية من الرسول صلى الله على وسلم، كانت تتحدث فتسمع الصحابة الأجلاء ولم تكن تحسن الكتابة، ويقول عز وجل لأمهات المؤمنين: "فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض"، فلا يصمتن لأن صوت المرأة عورة، ولكن "وقلن قولاً معروفًا"، أي ليكن الكلام طبيعيًّا ليس به نغمة مثيرة، ولا به لحن مريب، وعندما جاءت المجادِلة تشرح لرسول الله صلى الله عليه وسلم قضيتها وتراجعه في الحكم لم يقل لها اسكتي إن صوتك عورة، فتلك صورة أخرى من الظلم الاجتماعي ما أنزل الله بها من سلطان.
ويرى أن صوت المرأة والرجل عورة إذا صاحبته نغمة يفهم منها الازورار عن الخلق الإسلامي فلا يوجد بين رجال الفقه من قال إن صوت المرأة عورة.. إنها إشاعة وكذبة.
في صروح العلم
وتعرض الكاتبة لموقف الشيخ الغزالي من طلاب العلم وخاصة النساء فكان رحمه الله تكاد تقرأ السعادة في عينيه لنجاحات المرأة ولطالما تناول بالفخر والثناء نساء معاصرات تفوقن في مجالات العلوم الدينية والأدبية والعلمية، وقدمهن كنماذج يحتذى بها.
وكان يرى في دفاعه عن حقها المشروع في أخذ العلم جزءاً من تحقيق الرسالة الإسلامية بربط المرأة بتعلم القرآن الكريم والسنة النبوية، ورفض شيخنا أن يوصد باب من أبواب المعرفة أمام النساء إلا أن يكون لأسباب فنية أو مواصفات خاصة، عندئذ ينطبق التخصيص على الرجال والنساء جميعًا فيوجه كل أحد إلى ما يناسب قدرته، إضافة إلى أن تعليمها يخدم عبادتها ويتجاوز إلى الانصهار مع عالم متجدد يتطور باستمرار، ولم يشأ للمرأة المسلمة التخلف في عصر غزت فيه المسلمة آفاق الأرض تبشر بدينها، والسبب هو القصور العلمي الذي بلغ مرتبة الجهل المركب عند بعض الإسلاميين المتحدثين عن موقف الإسلام من المرأة والصائحين بأصوات منكرة (المرأة لا ترى ولا يراها أحد تخرج من بيتها إلى بيت زوجها أو إلى القبر)، وقد نبغت نسوة في علم لا يتقنه سوى نخبة من رجال أوتوا ذهنًا حادًّا وقلبًا مستوعبًا فنشرن العلوم الدينية فاستحققن الذكر الخالد فها هي "شهدة بنت أبرى" تلقى عليها الرجال العلم، ومنحتهم إجازة علمية بالرواية والحديث، ومنهم "أبو سعد بن السمعاني" و"ابن عساكر" المؤرخ المشهور و"الموفق بن قدامة الفقيه الحنبلي" و"ابن الجوزي".
كان الشيخ الفقيه لا يهوى تولي المرأة مناصب تبعدها عن دائرتها الفطرية وتلك التي تنسجم مع شخصيتها وأهميتها لبنات جنسها كالتعليم والطب، على أنه بفكرة الثائر يرفض إخضاع وجهات النظر الخاصة لما يتعارض مع أحكام الشريعة فهو لا يرى استنادًا إلى أقوال بعض الأئمة مانعًا من توليها الرئاسة والوزارة والسفارة والقضاء حاشا الخلافة العامة.
للاختلاط ضوابط
ومن أهم ما عرضت له الكاتبة، ما يخص الاختلاط بين الجنسين، فهناك فتوى شائعة بين بعض المسلمين ومتناقلة بين خصوم الإسلام وهي أن الإسلام يقيم أسوارًا عالية بين الجنسين حتى لا يرى أحدهما الآخر، فالرؤية المجردة محرمة، وقد رجع شيخنا إلى القرآن الكريم والسنن المتواترة والصحيحة فوجد أن هذه الشائعة مكذوبة، فالإسلام لم يحرم الاختلاط على عصر النبوة وهو في أزكى وأطهر وأندى العصور الإسلامية، إلا أن هذا الاختلاط كان محكومًا بأسيجة من العفة والفضيلة فالمسجد والشارع وأرجاء المجتمع يوجد فيها الجنسان تحكمهما هذه الآداب: عدم التبرج والإثارة، وغض البصر، والتزام العفة، وانشغال كل مسلم ومسلمة بالأغراض المشروعة التي خرج من أجلها.
المرأة والمسجد
ومن هذه القضايا أيضًا -المرأة والمسجد- فقد تتبع الشيخ كل أثر صحيح تبدو فيه مكانة المرأة عزيزة في ارتباطها بالمسجد للتصدي لمن يمنعها من غشيانه من صلاة الصبح حتى غلس الليل من خلال الدعوة المفتوحة لها من النبى صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، وتراه اندهش ممن ذهب من الفقهاء إلى أفضلية صلاة المرأة في بيتها؛ لأنه لو كان الأمر كذلك فلم أشرف الرسول صلى الله عليه وسلم على تنظيم صفوفهن في مسجده؟ ولم جعل لهن بابًا خاصًّا بهن؟ ولم ذهب إليهن فعلمهن وحدثهن عن الصدقة؟ ولم حذر البعض من القرب إلى صفوفهن؟ فالمرأة أولى بها أن تصلي في البيت إذا كانت مسئولية بيتها تفرض عليها ذلك، ولا يجوز أن نفرض حصارًا قاتلاً على حياتها العملية وتحويلها إلى نسيج لا مكان له في دنيا أو دين في الأوضاع الاجتماعية، وقد كانت النساء على عهد نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم يصلين الجمعة ويسمعن خطبتها، فعن أم هشام قالت: ما أخذت "ق * والقرآن المجيد"، أي ما حفظت السورة، إلا من لسان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها على المنبر كل جمعة؛ وذلك لكثرة ترددها على المسجد في صلاة الجمعة.
في رحاب التربية
ولشيخنا في رحاب التربية آراؤه المميزة ومعالجاته السديدة في منهج التربية، حيث تقف المرأة على باب المساواة مع الرجل في الغرف من معينها، وحذر شيخنا من الابتعاد عن منهج الله سبحانه وتعالى في التربية العادلة، ويرفض ظلم الفتاة في العقوبة دون أخيها بعيدًا عن أحكام الشريعة الإسلامية فقد يعلم الرجل أن ابنه زنى فلا يتغير شيء من أسارير وجهه فإذا اتهمت ابنته بذلك قتلها فورًا، وقد يقوم البيت على الربا والفسق والكذب وترك الصلاة والصيام والزكاة ولا يرون في ذلك مشينًا، لكن تدلي المرأة إلى موطن شبهة هو الجريمة النكراء التي لا تغسل إلا بسفك الدماء.
وأكد الشيخ على أن المرأة مطالبة بنشر تعاليم الدين والدعوة إليه وتحبيبه من أصحاب الديانات الكبرى، ولها الأجر من الله عز وجل "لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر لو أنثى بعضكم من بعض".
وقد تحدث عن داعيات حفل تراثنا الإسلامي بترجمات ثرية تدور حولهن حتى في العصور المظلمة التي تقهقر فيها وضع المرأة كانت هناك داعيات وواعظات منهن أم شريك الصحابية القرشية، وهي أول ما يسمى بلغة العصر "وكالة أنباء"، فقد كانت تدخل البيوت وتعرض على النساء الدعوة إلى الله ولطالما عذبت بسجنها، وأم سلمة وقصة مهرها الشهير خدمة للدعوة من أبي طلحة.
وقد طالب شيخنا المسئولين في وزارة الشئون الدينية بالجزائر أن تعقد المساجد الكبرى حلقات وعظ وإرشاد وتربية للنساء، وخاصة في أوقات مختارة يقوم بالتدريس فيها خريجات الجامعة الإسلامية.
هذا هو الشيخ محمد الغزالي أحد المفكرين الذين عرفوا بدفاعهم عن حقوق المرأة وحاولوا إعادة حقها المسلوب، بيد أنه تميز عنهم بكونه أجرأ من دافع عن حقوقها الإسلامية وأشدهم تعاطفًا أمام قهرها وانكسارها الاجتماعي واستمرارًا لمتابعة قضيتها وحتى آخر يوم من حياته، لقد نظر إليها على أنها قضية دينية لا قضية رجل وامرأة.
منقول - اسلام وان لاين